زلينسكي ليس بطلا بتحديه ترامب

بقلم /هاني عبدالقادر سليمان
روسيا تعرّضت لإذلال تاريخي لم يسبق له مثيل..أبطاله أميركا وصندوق النقد الدولي..بعد انتهاء الحرب الباردة لم تترك الولايات المتحدّة فرصة إلا واستخدمتها لإنهاء حلم روسيا الكبرى مرة واحدة وللأبد..كيف كان الذلّ؟..تخيّل الروس أن الغرب سيعاملهم بما يقتضيه الأمر..قوة هائلة جغرافيًا وعسكريًا منبثقة من رحم إمبراطورية حكمت نصف أوروبا ونازعت أميركا السيادة على العالم لأربعين عامًا..كان هذا هو المخيال الروسي..لكن أميركا رفضت الاعتراف بالمكانة الجديدة..بلغت الوقاحة الأميركية مستوى أن عرضت على موسكو عام 1992 نزع سلاحها الاستراتيجي بالكامل مقابل حزمة مساعدات أميركية بقيمة 5.4 مليار $..صُعق حتى أكثر المفرطين الروس..الرئيس السكّير بوريس يلتسين.
روسيا لم يكن في تصورها معاداة الغرب..بل أخذت خطوات واضحة من أجل التقارب معه..ليس مجرد خطوات بل عقيدة سياسية كاملة/ Doctrine عُرفت باسم ‘‘عقيدة كوزيريف‘‘..وبموجبها طلبت روسيا الجديدة عام 1993 الانضمام الكامل للمؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية الأوروبية في مقابل شرط واحد فقط..أن يترك الغرب لروسيا حرية الحركة في دول الاتحاد السوفيتي السابقة، دون نشر الترسانات العسكرية الغربية هناك..الأمر مهم جدًا لكبرياء أمة جريحة..فحتى الدول متوسطة القوة لا تقبل أن يأتي خصومها لحدودها، أن يحصاروها من كل اتجاه، بحيث يقيدوا حركتها في أي صعود مستقبلي..ما بالك بأمة حتى سنوات أربع خلت كانت هي الاتحاد السوفياتي.
هل استغل الغرب الفرصة لتحويل روسيا لدولة ليبرالية ذات مؤسسات ديمقراطية مع دمجها في الغرب؟..لا..سوف ترى روسيا لثمان سنوات قادمة ما الذي تعنيه حقًا الليبرالية الأميركية..ليبرالية النهب والسرقة..ما فعله الأمريكيون بروسيا كان من الأحطّ في التاريخ..برنامج الأصول مقابل القروض..فجأة احتضنت واشنطن ثلة من الحثالات الروسية، بريزوفيسكي، جرينوفيسكي، والإسم الأشهر هو خودراكوفيسكي..الأخير كان Scumbag بمعنى الكلمة..ذهب للبنوك الاوروبية، حصل على تمويل، عاد لموسكو، واشترى شركة النفط الحكومية الروسية ‘‘يوكوس‘‘ والمقدرة قيمتها بمليارات، مقابل عشرات الملايين..كانت تلك هي الخطة الأميركية لسرقة روسيا..حسنا البلد الجديد مفكّك، عاجز عن إدارة مؤسساته بكفاءة، يرغب في الحصول على قروض دولية..سوف يحصل إذن على القروض، لكن على الغرب أن يُخبر روسيا أولًا أنها دولة مترهلة..لابد أن تُطبق الوصفة كاملة..وصفة تاتشر-ريجان التي اعتمدها البنك وصندوق النقد الدولي..أي خصخصة المؤسسات الحكومية..من المشتري؟..مواطنون روس طبعا..وعند تلك النقطة تدخلت أميركا عبر تصعيد نخب روسية عميلة للغرب، كانت في الأصل تشغل مناصب دنيا في السلك الإداري السوفياتي..سحصلون على أموال الغرب ويشترون بها مؤسسات حكومية روسية عملاقة، تدير أصولا بمئات مليارات الدولارات..مقابل الفتات..حرفيا الفتات.
كم خسرت روسيا خلال عشر سنوات من ذلك البرنامج الذي اشترطه الغرب؟..3.9 تريليون دولار..هذا هو عين ما تعنيه الليبرالية الأميركية..سرقة روسيا..وليس هذا فحسب..بل الخطوة الثانية سرقة فضاءها الحيوي..استباحة مطلقة على خطوتين..سياسية وعسكرية..السياسية بدمج الدول الشرقية السابقة في الاتحاد الأوروبي..وعسكريا باجتذابها لحلف الناتو..أصبحت روسيا ليس فقط أمة مهزومة وضعيفة ومديونة للغرب..بل ومحاصرة من قبل الناتو من كل اتجاه حتى إذا أرادت الصعود مرة أخرى، وجدت فوهات المدافع الأميركية مصوّبة نحو الكرملين.
روسيا التي ذهبت مهرولة إلى الغرب عادت خائبة الرجا..حتى أن المُفرّطين أدركوا ذلك..يلتسين قال جملته الشهيرة ‘‘روسيا أكبر من أن توضع في غرفة الانتظار‘‘..هل تعلم لماذا قالها؟..لأنه حتى بعد أن ارتضت روسيا بسلبها ونهبها وانحطاط مؤسساتها، رفض الغرب السماح لها بدخول المؤسسات الأوروبيةـ الأطلسية الكبرى..تخلّت روسيا عن عقيدة كوزيريف وصاغت واحدة جديدة وهي ‘‘عقيدة بريماكوف‘‘ والتي تقوم على أمرين..أولهما: إنشاء تحالف روسي-صيني لمواجهة الهيمنة الأميركية، ثانيهما: المعارضة الشديدة لتوسع حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا..كانت تلك هي نقطة الإفاقة الكاملة..لكنها بلا أنياب..لأن روسيا أمة ضعيفة..من سوف يجعلها قادرة على تنفيذ ذلك التحول هو شخص واحد فقط..فلاديمير بوتين الذي سوف يأتي من قلب ‘‘السلافوي-ستروكتوري‘‘ الروسية..أي النخب الأمنية والعسكرية، ليُعيد لروسيا سابقة أمجادها.
قلّم بوتين أظافر الغرب في الداخل الروسي..استرد أموال الدولة الروسية، أزاح كل نخب يلتسين المصنوعة على عين واشنطن..في بعض الأحيان اكتفى بالسجن ( 15 عامًا لخودراكوفيسكي) وفي أحايين كثيرة كانت البارودة في المنفى خير جواب لعصيان أوامر القيصر الجديد..وبدأ في لملمة آثار الانحطاط الروسي وقبل أن يفعل أرسل ألف إشارة للأميركيين ألا مجال لاستباحة روسيا من جديد..ونجح..نجح بشكل قياسي..منع نشر الصواريخ الأميركية في بولندا 2006، ولما تجرأت جورجيا في 2008 وأرادت إكمال عقد الناتو على الحدود الروسية، انتزع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وأوقف الحلم البرتقالي في أوكرانيا بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم في 2014.
كان على زيلينسكي أن يُدرك وهو المهرج التلفيزيوني..أن روسيا بوتين ليست روسيا يلتسين..وأن قدر بلاده الجغرافي هو الوقوع في قلب التماس بين قوتين عملاقتين، وأن الخيار الأنسب للأوكران هو أحد أمرين لا ثالث لهما..إما علاقات جيدة جدًا مع موسكو، وإما توازن أقرب للحياد..جورجيا وقبلها بولندا وبلاده نفسها في 2014 كانت خير شاهد على ما يُمكن أن يحدث لأوكرانيا إذا ما تورطت في لعبة الأمم..لم تكن تلك خطيئة زيلنيسكي الأولى، الثانية هي تصديق وعود الإدارة الأميركية بأن يخوض معركة الغرب ضد روسيا، وسوف يحظى في المقابل بالدعم العسكري والأمني والسياسي..فاندفع لتصفية حسابات تاريخية ببلاده وجنوده وأرضه وترابه..ولم يعلم في المقابل أن بوتين جهّز اقتصاد حرب قادر على الصمود في وجه التعدّي الأخير، الذي إن مر، ستكون الأراضي الروسية نفسها، هي ساحة المعركة الأميركية التالية.
يقول البعض..وهل ليس من حق زيلنسكي والأوكران تقرير المعسكر الأنسب لهم؟..في الانتماء للغرب وليس التقارب مع موسكو؟..وهل تنسى أوكرانيا مجاعة الهولدمور، وتصافح اليد التي جوّعت حتى الموت 4 ملايين أوكراني؟..أليس للشعوب حق تقرير المصير؟..لكن نفس من يردّد ذلك لا يجيب على سؤال مماثل..وهل لم تكن كوبا حرّة في استقدام الترسانة النووية الروسية؟..ولماذا لم يترك الأميركيون الحق لتشيلي في الانتماء للمعسكر الشرقي بدلًا من تمكين بينوشيه؟..لماذا يسمح للولايات المتحدة باعتبار أميركا الوسطى والكاريبي واللاتينية فضاء حيوي ممنوع ولوجه على السوفييت والصينيين؟..ولا يُسمح لروسيا بالمثل في حماية حديقتها الخلفية؟..في السياسة الدولية لا مجال لاختيارات مماثلة..لكل دولة الحق في حماية نفسها بالطرق الأنسب من تمدّد عدوها..وروسيا بوتين فعلت ما تمليه المصلحة الوطنية..كان يتعيّن على زيلينسكي فقط فهم ذلك ولم يفعل.
هذا المهرّج أنهى وحدة بلاده للأبد..لن تعود مرة أخرى كما كانت..هي الآن ساحة للتكالب..الكل يطمع في قطعة منها أو أن يكيّفها على حسب ظروفه الاستراتيجية..يرغب الأميركيون في مواردها النادرة، ويرغب الأوروبيون في أن يخوضوا معركتهم ضد بوتين حتى آخر جندي أوكراني، ولا يرغب الروس في شيء..هما نالوا بالفعل مبتغاهم ونجحوا في توسيع حدودهم بضم الأقاليم الأوكرانية الأربع، ولن يتراجعوا لو انطبقت السماء على الأرض..واليوم في شجاعته المزيفة ومظهره الضئيل أمام ترامب..لا يخوض زيلينسكي معركته الشخصية..بل معركة أوروبا ضد ترامب..أوروبا التي تعلم بشدة أن خسارة أوكرانيا في تسوية ترامبية-بوتينية سوف تعني أمرًا واحدًا فقط..انهيار الاتحاد الأوروبي والعودة لأجواء 1930..ولو قرّرت أووربا غدًا كشف ظهر زيلينسكي..لوجدته مرغمًا على التوقيع..ربما على العاصمة كييف كمحمية روسية.
ليست هناك شجاعة في توظيف بلادك في معركة لأجل الآخرين..ليست هناك شجاعة وأنت يتوافر لك مئات مليارات الدولارات في حرب غربية ضد روسيا..ليست هناك شجاعة عندما تتجاهل مقادير السياسة الدولية وتقامر بشعب كامل حتى يُحقق بك الأميركيون والأوروبيين مكسبًا إضافيًا في مواجهة الروس..ليست هناك شجاعة في أن تعتبر الحرب مسلسلًا تليفزيونيًا..وتصر على أن تلعب فيه دور المهرّج !